فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة البروج:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالسماء ذَاتِ البروج} أي: الكواكب والنجوم، شبهت بالبروج- وهي القصور- لعلوِّها. أو البروج منازل عالية في السماء.
قال ابن جرير: وهو اثنا عشر برجاً، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلاً، ثم يستتر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر. وأصل معنى البروج- كما قاله الشهاب- الأمر الظاهر من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية؛ لأنها ظاهرة للناظرين. ويقال لما ارتفع من سور المدينة: برج أيضًا. فشبه- على هذا- الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج {وَالْيوم الموعود} أي: الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة.
{وَشَاهِدٍ} وهو كل ماله حس يشهد به {ومشهود} وهو كل مُحسّ يشهد بالحس. فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها. وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما، لعله لأنه الأهم، أو الأولى أو الأعرف والأظهر، لقرينةٍ عندهُ، وإلا فاللفظُ على عمومه، حتى يقوم برهان على تخصيصه.
{قتل أَصْحَابُ الأخدود} أي: قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم. على أن الجملة خبرية هي جواب القسم. أو دليل جوابه أن كانت دعائية، والتقدير: لتبلون كما ابتلي من قبلكم، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود.
قال الزمخشري: وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يَلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل:
{قتل أَصْحَابُ الأخدود} و{الأخدود}: الحفرة في الأرض مستطيلة.
وقوله تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الوقود} بدل من {الأخدود}، و{الوقود} بالفتح الحطب الجزل الموقد به، وأما الوقود بالضم فهو الإيقاد.
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا} أي: على حافات أخدودها {قعود} أي: قاعدون يتشفون من المؤمنين.
{وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شهود} أي: حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية، وما تفعل بها النيران. ولا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم.
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} أي: وما أنكروا منهم، ولا كان لهم ذنب، إلا الإيمان بالله وحده.
قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته، إما باللسان وإما بالعقوبة. ومنه الانتقام {الْعَزِيزِ} أي: الغالب أعدائه بالقهر والانتقام {الحميد} أي: المحمود على إنعامه وإحسانه.
{الَّذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شهيد} أي: على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجَرة أصحابِ الأخدود وغيرهم، شاهدٌ شهوداً لا يخفى عليه منه مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه. وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعارٌ بمناط إيمانهم؛ فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً، له ذلك الملك الباهر وهو عليم بأفعال عبيده، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر. وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو معروف في كتب المعاني.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس في {أصحاب الأخدود} قال: هم ناس من بني إسرائيل خَدّوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيها ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً، فعرضوا عليها. وهكذا قال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساءً فخدّوا لهم أخدوداً، ثم أوقدوا فيه النيران، فأقاموا المؤمنين عليها. فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار؟.
وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقاً بنَجران، كانوا يعذبون فيها الناس- وتفصيل النبأ- على ما في كتاب (الكنز الثمين)- أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العَريَّة عن شوائب الإلحاد، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران، وكان أقام عليها ملِك الحبشة أميراً من قِبَله نصرانياً مثله، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن، والإيقاع بمن تنصر؛ بغضاً في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم، فأقاموا رجلاً يهودياً منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله، فأشهر ذلك اليهودي نفسَه ملكاً على بلاد سبأ، وجاء لمحاربة مدينة نجران، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة، ولما دخلها قتل عدداً عظيماً من سكانها رجالاً ونساءً. كانت عدتهم- فيما يقال- ثلاثمائة وأربعين شهيداً، وأتى بذاك الراهب محمولاً يحف به الجنود، وكان هرماً لا يقوى على المشي، فسئل عن عقيدته فأقرَّ بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام؛ فأمر بسفك دمه فقتل، وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جُبن ولا تهيُّب، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران، ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره. وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى والفرح بالشهادة، ما أضحوا مثالاً وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه، سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له. لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين. وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته. ويؤرخونها بعام: 524 من التاريخ المسيحي، وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها. والله أعلم.
{إِنَّ الَّذينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم.
قال أبو السعود: والمراد بهم إما أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي: عن كفرهم وفتنتهم {فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عذاب الحريق} أي: عذابان منوّعان على الكفر وعلى الفتنة، أوهما وأحد، أو من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه؛ لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما. والأظهر أنهما وأحد وأنه من عطف التفسير والتوضيح.
{إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: من هؤلاء المفتونين وغيرهم {لِهِمُ} أي: في نشأتهم الأخرى {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الكبير} أي: التام الذي لا فوز مثله.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} قال أبو السعود: استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. والبطش: الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويعيد} أي: يبدئ الخلق ثم يعيده.
قال الإمام: وهو في كل يوم يبدئ خلقاً من نبات وحيوان وغيرهما، ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى، ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه.
{وَهُوَ الْغَفُورُ} أي: لمن يرجع إليه بالتوبة {الودود} أي: المحب لمن أطاعه وأخلص له.
{ذُو العرش} أي: المُلكِ والسلطان أو السماء {المجيد} أي: العظيم في ذاته وصفاته. وقرئ بالجر صفة لـ: {العرش}. ومجدُه: علوُّه وعظمته.
{فَعَّالٌ لما يريد} أي: لا يريد شيئاً إلا فعله، فلا يحول بينه وبين مراده شيء، فمتى أراد إهلاك الجأحدين ونصر المخلصين فعل؛ لأن له ملك السماوات والأرض؛ ولذا تأثره بقوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حديث الجنود} أي: الذين تجنَّدوا على الرسل بأذاهم.
قال ابن جرير: أي: قد أتاك ذلك وعلمتَهُ، فاصبر لأذى قومك وإياك لما نالوك به من مكروه، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي، ولا يثنيّنك عن تبليغهم رسالتي كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء؛ فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عَطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود، فالجملة- كما قال أبو السعود- استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة، والكفرة العتاة وكونه فعالاً لما يريد متضمن لتسليته صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومَه ما أصاب الجنود.
وقوله تعالى: {فِرْعَوْنَ وثمود} بدل من {الجنود} لأن المراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال.
{بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في تكذيب} أي: للحق والوحي، مع وضوح آياته وظهور بيناته؛ عناداً وبغياً. والإضراب انتقالي للأشد، كأنه قيل: ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك، فإنهم مع علمهم بما حل بهم، لم ينزجروا، وفي جعلهم {في تكذيب} إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
{وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم محيط} أي: محصٍ عليهم أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها. فاللفظ كناية عما ذكر. أو المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً. ففيه استعارة تمثيلية.
قال الشهاب: وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا اللهَ وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قرآن مجيد} أي: سامٍ شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته.
{فِي لَوْحٍ محفوظ} قرئ بالرفع صفة لـ: {قرآن}، والجر صفة لـ: {لوح}.
قال ابن جرير: والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح، وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه، عما أثبته الله فيه. و{بَلْ} إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه، إلى وصف القرآن بما ذكر، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء؛ فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة البروج:
الدرس الأول: 1- 3 القسم بمخلوقات عظيمة:
{والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود}..
تبدأ السورة- قبل الإشارة إلى حادث الأخدود- بهذا القسم: بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية، كما قال: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}.. وكما قال: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها}.. وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء. والإشارة إليها يوحي بالضخامة. وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو.
{واليوم الموعود}.. وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها. وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه. وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور.
{وشاهد ومشهود}.. في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين.. ويعلم كل شيء. ويظهر مكشوفا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون..
وتلتقي السماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود.. تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود.. كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث. وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه.. وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود..
الدرس الثاني: 4- 9 جريمة أصحاب الأخدود في حرق المؤمنين بالنار:
وبعد رسم هذا الجو، وفتح هذا المجال، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل:
{قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نَقَمُواْ منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد}..
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود: {قتل أصحاب الأخدود}.. وهي كلمة تدل على الغضب. غضب الله على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه.
ثم يجيء تفسير {الأخدود}: {النار ذات الوقود} و{الأخدود}: الشق في الأرض. وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارا، فصارت النار بدلا في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها.
قتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: {إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود}.. وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع!
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر: {وما نَقَمُواْ منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد}.. فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله، العزيز: القادر على ما يريد، الحميد: المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور.
{إِنَّ الَّذينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عذاب الحريق (10) إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الكبير (11)}
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود.. وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدا. وكفى بالله شهيدا.
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه. فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه.
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجإذبية الأرض. فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.. يعقب به السياق..
الدرس الثالث: 10- 11 حرق الكفار في جهنم ونجاة المؤمنين وفوزهم بالجنة:
{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات- ثم لم يتوبوا- فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}..
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف. فالبقية آتية هناك. والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت. وهو مقرر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله:
{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}.. ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا {ثم لم يتوبوا}.. {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}.. وينص على {الحريق}. وهو مفهوم من عذاب جهنم. ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث. ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مُدَّتْه! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضي الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم!
ويتمثل رضي الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}.. وهذه هي النجاة الحقيقية: {ذلك الفوز الكبير}.. والفوز: النجاة والنجاح. والنجاة من عذاب الآخرة فوز. فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه. وهي الخاتمة الحقيقية للموقف. فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه، لا يتم به تمامه.. وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويعيد (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الودود (14) ذُو العرش المجيد (15) فَعَّالٌ لما يريد (16) هَلْ أَتَاكَ حديث الجنود (17) فِرْعَوْنَ وثمود (18)}
الدرس الرابع 12- 18 تعقيبات على قصة أصحاب الأخدود، من صفات الله وهلاك الكفار ثم تتوالى التعقيبات..
{إن بطش ربك لشديد}.. وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا. فالبطش الشديد هو بطش الجبار. الذي له ملك السماوات والأرض. لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة، في رقعة من الزمان محدودة..
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والقائل وهو الله عز وجل. وهو يقول له: {إن بطش ربك..} ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته، وسندك الذي تركن إلى معونته.. ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين!
{إنه هو يبدئ ويعيد}.. والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة.. إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار. ففي كل لحظة بدء وإنشاء، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات. والكون كله في تجدد مستمر.. وفي بلى مستمر.. وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير. فهو بدء لإعادة. أو إعادة لبدء. في هذه الحركة الدائبة الدائرة..
{وهو الغفور الودود}.. والمغفرة تتصل بقوله من قبل: {ثم لم يتوبوا}.. فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود. وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب. ولو عظم الذنب وكبرت المعصية.. أما الود.. فيتصل بموقف المؤمنين، الذين اختاروا ربهم على كل شيء. وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم. حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها.. مرتبة الصداقة.. الصداقة بين الرب والعبد.. ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين.. فمإذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة؟ ومإذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ مإذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض. عبيد الوأحد من البشر، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه.. وهو عبد وهم عبيد.. فكيف بعباد الله. الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل، الله {ذو العرش المجيد} العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة. وهان الألم. وهان العذاب. وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضي يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد..
{فعال لما يريد}.. هذه صفته الكثيرة التحقق، الدائبة العمل.. فعال لما يريد.. فهو مطلق الإرادة، يختار ما يشاء؛ ويفعل ما يريده ويختاره، دائما أبدا، فتلك صفته سبحانه.
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها. ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفآنية لحكمة يريدها.. يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض. ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود.. لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك، في قدره المرسوم..
فهذا طرف من فعله لما يريد. يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود. وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود. فعال لما يريد.. وهاك نموذجا من فعله لما يريد:
{بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في تكذيب (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم محيط (20) بَلْ هُوَ قرآن مجيد (21) فِي لَوْحٍ محفوظ (22)}
{هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود}. وهي إشارة إلى قصتين طويلتين، ارتكانا إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين، بعدما ورد ذكرهما كثيرا في القرآن الكريم. ويسميهم الجنود. إشارة إلى قوتهم واستعدادهم.. هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد؟
وهما حديثان مختلفان في طبيعتهما وفي نتائجهما.. فأما حديث فرعون، فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل، ومكن لهم في الأرض فترة، ليحقق بهم قدرا من قدره، وإرادة من إرادته. وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحا والقلة معه حيث لم يكن لهم بعد ذلك ملك ولا تمكين. إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين.
وهما نموذجان لفعل الإرادة، وتوجه المشيئة. وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة، إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود.. وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة، ولكل جيل من أجيال المؤمنين..
الدرس الخامس: 19- 22 هزيمة الكفار وحفظ القرآن:
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان. في كل منهما تقرير، وكلمة فصل وحكم أخير:
{بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط}..
فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون. {والله من ورائهم محيط}.. وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه. فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم!
{بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}..
والمجيد الرفيع الكريم العريق.. وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم؟ وهو في لوح محفوظ. لا ندرك نحن طبيعته، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه. إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير، والإيحاء الذي يتركه في القلوب. وهو أن هذا القرآن مصون ثابت، قوله هو المرجع الأخير، في كل ما يتناوله من الأمور. يذهب كل قول، وقوله هو المرعي المحفوظ..
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود، وفي الحقيقة التي وراءه.. وهو القول الأخير.. اهـ.